الاستثمار الأمثل- التنمية مقابل الحروب وأثر الثقافة في تحديد المصير.
المؤلف: بشرى فيصل السباعي11.26.2025

إن الموارد الاقتصادية للدول، مهما بلغت من وفرة وثراء، تبقى محدودة وقابلة للنضوب، مما يضعها أمام خيار مصيري حاسم. هذا الخيار يتأرجح بين توجيه هذه الموارد الشحيحة نحو مجالات السلم والازدهار، أي نحو التنمية المستدامة ورفاهية المواطنين، أو تبديدها في أتون الحروب والصراعات المدمرة. والواقع المرير يشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط، في معظم فترات تاريخها الحديث، قد جنحت نحو الخيار الثاني، حيث استثمرت بثرواتها في تغذية نيران الحروب وإشعال فتيل الصراعات. والنتيجة المأساوية هي أن أخبار العالم العربي تتصدر باستمرار عناوين الصحف والمواقع الإخبارية بصور مروعة للدمار الشامل، والمجازر البشعة، والاغتصابات الجماعية الممنهجة، والمآسي الإنسانية التي تصدم الضمير العالمي، وتشوه صورة الإنسان عقلياً ونفسياً وثقافياً، وتلطخ سمعة الدول، وتنفر السياح والمستثمرين على حد سواء.
يثير هذا الواقع المؤلم تساؤلاً جوهرياً: ما الذي يدفع بعض الثقافات إلى دفع أبنائها للاستثمار في الصراعات والتناحرات، بينما تحفز ثقافات أخرى شعوبها على الاستثمار في التنمية الشاملة ورفاهية الإنسان؟ يكمن الدافع في طبيعة القيم والمعتقدات التي تتشكل منها هذه الثقافات. فبعض الثقافات تتمحور حول "الأنا" المتضخمة، أو ما يعرف بـ "الإيجو" الغرائزي البدائي الذي نتشاركه مع عالم الحيوان. فجماعات الحيوانات، كالقرود على سبيل المثال، تعيش في حالة حرب دائمة على السيطرة والنفوذ، حيث يقوم الذكر المهيمن بتحديد حدود منطقة نفوذه عبر إفرازات جسده، وأي متجاوز لهذه الحدود يلقى حتفه. وفي الوقت نفسه، ينخرط الذكر المهيمن في غزو مناطق الجماعات الأخرى لتوسيع رقعة سيطرته.
وبناء على هذا التصور، كلما كانت الثقافات أقرب إلى البدائية والتخلف، كلما كانت متمحورة حول صراعات السيطرة والهيمنة. وعلى النقيض من ذلك، كلما كانت الثقافات أكثر تطوراً ورقياً وتحضراً، كلما تمحورت حول الاستثمار في التنمية الشاملة والرفاه العام. ولذا، فإن ما تحتاجه منطقتنا العربية والإسلامية، الغارقة في مستنقع الحروب والصراعات، هو تطوير وترقية الثقافة العامة السائدة، والتوعية بمخاطر الثقافة الغرائزية البدائية التي تدفع أصحابها إلى العنف والحروب والصراعات والإرهاب الأعمى.
وحتى بالنسبة للأراضي المحتلة، فإن ما سيحررها ليس الصراع المسلح، نظراً لعدم تكافؤ ميزان القوى مع المحتل الغاشم. بل إن ما يمكن للأراضي المحتلة أن تتفوق به على المحتل وتنتصر عليه هو الاستثمار المكثف في التنمية الشاملة والتطور المستدام، حتى تفوق قوتها الحضارية سيطرة المحتل وقوته العسكرية. بينما الصراع المسلح مع المحتل، مع الفارق الشاسع في ميزان القوى، لا يجلب سوى الدمار الشامل والمجازر المروعة، دون تحقيق أي فوائد ملموسة.
ويعود السبب الأساسي لهذا الواقع المرير إلى عدم شغل مناصب صناعة القرار من قبل التكنوقراط والخبراء والمتخصصين ذوي الكفاءات العالية، وإنما شغلها من قبل مسيسين تحركهم غريزة السلطوية وحب الزعامة. ولذا، فإن حسابات هؤلاء المسيسين لا تأخذ بالاعتبار مصلحة الشعوب، وإنما تقتصر على عنتريات فارغة وحسابات شهوة السلطوية الأنانية. ولذا، مهما تم ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج، فلن يظهر أي أثر إيجابي لذلك في التنمية العامة عربياً، لأنه لم يتم تكليف هؤلاء المبتعثين بالمناصب العليا وصناعة القرار.
كما أن هناك حاجة ماسة للابتعاث للتدريب العملي على تطبيق العلوم النظرية على أرض الواقع. فغالب الدول العربية لديها برامج ابتعاث منذ عقود طويلة، ومع هذا لا يوجد أي أثر ملموس لهذه البرامج في تحسين الواقع المعيشي للمواطنين، ولا في إنتاج أي اختراع أو كشف علمي يذكر. مما يدل على وجود مشكلة حقيقية في تطبيق ما تعلمه المبتعثون في الخارج. ولذا، هناك حاجة ملحة لتدريب المبتعثين على تطبيق العلوم التي اكتسبوها في بيئات عملية واقعية.
والشق الآخر لتطوير الثقافة السائدة يقع على عاتق صناع الثقافة العاملين في مجالات الفنون والإعلام والصحافة والفكر والمناهج الدراسية. وللأسف الشديد، عندما يكون صناع الثقافة أنفسهم غير متجاوزين للثقافة البدائية الغرائزية، فإن كل إنتاجاتهم تساهم بشكل أو بآخر في تكريس ثقافة الحروب والصراعات الغرائزية البدائية. وحتى إن لم تحرض هذه الإنتاجات مباشرة على الحروب والصراعات، فإنها تقولب الأجيال على الثقافة البدائية الغرائزية، وهذا تلقائياً يدفعهم إلى الحروب والصراعات والإرهاب والعنف، حتى بدون تحريض مباشر عليها.
ويمكن للعرب الاستفادة من مناهج الدول التي شهدت نقلة نوعية من ثقافة الحروب والصراعات إلى ثقافة الاستثمار في التنمية والتطور والرفاه العام، مثل اليابان والصين والدول الأسكندنافية. فالعرب عالقون منذ قرن كامل في تكرار ذات الأنماط الكارثية العواقب، دون تحقيق أي تطور يذكر. بينما بقية دول العالم التي كانت في مصاف الدول العربية في بدايات القرن الماضي، قد تحولت إلى قوى عالمية تفوق قوتها القوى الغربية. بينما لا يزال العرب يراوحون مكانهم، ولا يتعلمون من أخطائهم، ولا يغيرون الثقافة التي ولدت تلك الأخطاء.
